‏إظهار الرسائل ذات التسميات فلسفة التاريخ. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فلسفة التاريخ. إظهار كافة الرسائل
لقد كانت النظرة التقليدية للتاريخ تهتمُّ - غاية ما تهتم - بجمعِ الوقائع العسكرية، والتحولات السياسية، التي تتخذ صور المعاهدات أو التنازلات، أو ما إلى ذلك، من أمور تتصل بطريق أو بآخرَ بالخط السياسي والعسكري، وقلما كان قارئ التاريخ يجد بين ثنايا الكتابات الموضوعية أو الحولية البالغةِ حدَّ المجلدات - سطورًا أو صفحات تتناول ناحيةً فكرية أو اعتقادية، أو تحولاً اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا، أو رؤية نفسية، أو نظرة شبة شاملة - فضلاً عن النظرة الشاملة - ترصد سائر العوامل المحركة والمسهمة في صنع الحدث التاريخي!
وقد يكون بإمكاننا في هذا البحث أن نقول: إن ذلك المنهج - بصفة عامة - قد سيطر على حركة التاريخ البشري في سائر كتابات المؤرخين، باستثناء النظرات العارضة التي تناولْناها آنفًا، حتى ظهر ذلك العملاقُ العبقري المغربي الأندلسي المسلم عبدُالرحمن بن خلدون.
إلا أننا - خضوعًا للموضوعية - نضطر إلى القول بأن مؤرخنا المسلم العظيم قد استطاع أن يضع فعلاً رؤية نظرية لتفسير التاريخ بعواملَ مختلفةٍ، سماها طورًا: "العصبية الدينية أو القَبَلية"، وسماها طورًا: "البيئة"؛ (أي: الأثر الجغرافي)، كما ألمح إلى العوامل البيولوجية والاقتصادية.
إلا أن المؤرخ الكبير لم يقدم لنا دراسةً تاريخية تطبيقية نستطيع أن نتكئ عليها لكي نقول: إنه قد فتح عصرًا جديدًا في نهج التأليف التاريخي، كما أنه من سوء حظِّ مؤرخنا الكبير، ومن سوء حظنا - كأمة ينتمي هذا المفكرُ العملاق إليها - أن إشعاعات ابن خلدون القوية واجهت أمةً نائمة، كانت تعيش فترة اضطراب حضاري، فلم تستطع إيقاعاتُهُ بالتالي أن تقوم بدورها في تحريك المجتمع الإسلامي الفوار بالاضطرابات والشرور خلال القرون التي سبقتْ عصر اليقظة في أوربا؛ أي: الثامن والتاسع والعاشر للهجرة (الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر للميلاد).
وبين صخب الصراعات الطائفية في المجتمع الإسلامي العريض، ضاعت إيقاعاتُ ابن خلدون، فلم تظهر إلا بعد أن اكتشف أصداءها أوربيون اتصلوا بعالم الإسلام المتحضر، وهذا حقٌّ لا يمكن إنكارُه؛ فإن ابن خلدون كان خميرة قوية، وإن لم نستطع - نحن المسلمين - الإفادة منها، فإن الأوربيين قد أفادوا منها أي إفادة، ويعتبر ابن خلدون من القلائل الذين تُرجمت أعمالُهم في وقت مبكر إلى كل لغات العالم الحية تقريبًا، وقد كتب الأوربيون حول مقدمته الشهيرة - وهي الجزء الأول من كتابه الكبير: "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر" - عشرات بل مئات الدراسات؛ بحيث لا يجد المؤرخ المسلم أي حرجٍ في أن يصرح بأن تأثير فكر ابن خلدون (بمقدمته في تفسير التاريخ وعلم العمران البشري) كان تأثيرًا مباشرًا وقويًّا وحاسمًا في يقظة الحضارة الأوربية، وتعتبر القائمة التي أوردها الدكتور (عبدالرحمن بدوي) حول الدراسات الأوربية عن ابن خلدون - في كتابه عنه - من الأدلة الواضحة على عمق هذا التأثير ووضوحه.
وقد تيقظ الأوربيون منذ بداية عصر النهضة على أصداء المقدمة، وقد بدؤوا في النظر إلى التاريخ نظرة أقرب إلى الشمول والتكاملية، فلم يعُدِ التاريخ مجرد حروب ومعاهدات، بل أصبح في رأي أكثرهم: "الأرض التي يجب أن تقف الفلسفة عليها وهي تنسج سائر ألوان المعرفة نسيجًا واحدًا؛ لينير طريق الحياة الإنسانية".
ويروج الأوربيون أن "فولتير" هو الذي بدأ هذه النظرة الشاملة للتاريخ؛ إذ إنه صاحب أول كتاب ذائع الصيت في تطبيق النظرية الجديدة في التاريخ، وهو كتاب: "رسالة في أخلاق الشعوب وروحها ووقائع التاريخ الرئيسة منذ شارلمان وحتى لويس الثالث عشر".
لكن الحقيقة أن (فولتير) مسبوق بكثيرين، لعل من أهمهم "الراهب بوسية" الذي كان يرى أن التاريخ "دراما إلهية، مقدمته وكل حادثة فيه هي درس من السماء تعلمه للإنسان"، كما سبقه أيضًا المؤرخ المشهور: "جيوفانو باتستافيكو"، الذي كان يعترف بوجود العناية الإلهية (مثل الراهب بوسية)، ولكنه في الوقت نفسه كان يفسر أحداث التاريخ تفسيرًا أرضيًّا بشريًّا خاضعًا لقوانين شبه كلية، سواء كانت مسيرة التاريخ في اتجاه صحيح أو اتجاه فاسد.
وقد توصل (فيكو) إلى تقسيم ثلاثي للتاريخ على أساس أنه ثلاث مراحل: (مرحلة الهمجية، ومرحلة البربرية، ومرحلة الحضارة)، وهو تقسيم يذكِّرنا بتقسيم (هيجل)، وتقسيم (أوجست كونت)، وإن كانت ثمة فروق كثيرة بينهم.
وعلى أية حال، فإن النظرة الأوربية تعتبر "فولتير" بداية عصر جديد في النظرة إلى التاريخ ووظيفته وتفسيره، لدرجة أن "أناتول فرانس" يبالغ فيسمي الفترة التي ظهر فيها "فولتير": (عصر فولتير)، ويبالغ أكثر فيقسم تاريخ الفلسفة إلى عصور أربعة، هي: عصر سقراط، وعصر هوراس، وعصر دابلين، وعصر فولتير.
والحق أن ابن خلدون هو المفتاح الكبير الواضح القسمات والمعالم، والمتكامل الرؤية والمنهج في قضية تفسير التاريخ، بل إننا نستطيع أن نقول مطمئنين: إن كتابة التاريخ ينتظمها عصران:
 عصر ما قبل ابن خلدون.
 عصر ما بعد ابن خلدون.
ومهما وُجدتْ نظراتٌ متناثرة في تفسير التاريخ قبل ابن خلدون، أو وُجدت كتابات سردية تقليدية بعد ابن خلدون، فإنه من الناحية الرسمية - على الأقل - يعتبر ابن خلدون مفرقَ طريقٍ بين مرحلتين، وليس ذلك في الفكر التاريخي الإسلامي فحسْبُ؛ بل في الفكر التاريخي الإنساني كلِّه.
وليست هذه المكانة التي نعطيها لابن خلدون رأيًا عنصريًّا أو عاطفيًّا، بل هي حقيقة اعترف بها كبار فلاسفة التاريخ الأوربيين، وسجَّلوها شهادات صريحة واضحة؛ فإن أكبر مفسر أوربي للتاريخ في العصر الحديث - وهو الأستاذ: (أرنولد توينبي) - يتحدث عن ابن خلدون في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه: "دراسة للتاريخ"، ويفرد في المجلد الثالث سبع صفحات (321 - 327)، وفي المجلد العاشر أربع صفحات (84 - 87)، وهو يقرر أن ابن خلدون "قد تصور في مقدمته، ووضع فلسفة للتاريخ، هي بلا مراء أعظمُ عمل من نوعه ابتدعه عقلٌ في أي مكان أو زمان"؛ (المجلد الثالث ص322)[1]، وهو يقول عن ابن خلدون في الفقرة نفسها: "إنه لم يستلهم أحدًا من السابقين، ولا يُدانيه أحد من معاصريه، بل لم يُثِرْ قبس الإلهام لدى تابعيه، مع أنه في مقدمته للتاريخ العالمي قد طوَّر وصاغ فلسفة للتاريخ تُعَدُّ بلا شك أعظمَ عملٍ من نوعه".
وأما المؤرخ العالمي (روبرت فلنت)، فيقول عن ابن خلدون في كتابه الضخم: "تاريخ فلسفة التاريخ":
"إنه لا العالم الكلاسيكي ولا النصراني الوسيط قد أنجب مثيلاً له في فلسفة التاريخ، هناك من يتفوقون عليه كمؤرخ حتى بين المؤلفين العرب، أما كباحث نظري في التاريخ، فليس له مثيل في أي عصر أو قُطْر، حتى ظهر (فيكو) بعده بأكثر من ثلاثة قرون، لم يكن "أفلاطون" أو "أرسطو" أو "سان أوغسطين" أندادًا له، ولا يستحق غيرهم أن يُذكر إلى جانبه، إنه يثير الإعجاب بأصالته وفطنته بعمق وشمول، لقد كان فريدًا ووحيدًا بين معاصريه في فلسفة التاريخ، كما "دانتي" في الشعر، (وروجر بيكون) في العلم، لقد جمع مؤرخو العرب المادة التاريخية، ولكنه وحده الذي استخدمها"[2].
ويقول عنه جورج سارتون: "لم يكن فحسب أعظم مؤرخي العصور الوسطى شامخًا كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ، سابقًا: ميكافيلي، وبودان، وفيكو، وكنت، وكورنو"!
وبما أن ابن خلدون أسبقهم زمانًا، وأبعدهم مكانة، وكلهم كانوا عالةً عليه، فمن البديهي أن نقول: إنه الإمام لمدرسة فلسفة التاريخ، إنه بداية عصر جديد في الكتابة التاريخية، نستطيع أن نسمِّيَه بلا تحفُّظ: (عصر ابن خلدون).
ولم يكن ابن خلدون مجرد رائد لتفسير التاريخ مع أسبقيته الزمانية لكل من ذكرناهم، فمع كل ما ذكرناه من ملاحظات عن الفكر الخلدوني بين التنظير والتطبيق، هناك جانب آخر يؤكد أصالة ابن خلدون وريادتَه في مجال التنظير العلمي للتاريخ.
فمن البدهي أنَّ تفسير التاريخ أو فلسفته إنما تقوم على أساس أن هناك قوانين في الحركة التاريخية يمكن اكتشافُها والإفادة منها في معرفة مراحل قيام الحضارات والدول، وأسباب سقوطها.
وبما أن مصطلح "قانون" يعني الثبات والاطِّراد والقَبول المستمر للتكرار عندما تتحقق الشروط إيجابًا أو سلبًا، على النحو المعروف في العلوم الفيزيائية والرياضية والكيميائية، فإن القول بخضوع التاريخ لقوانين اجتماعية تشبه قوانين العلوم الطبيعية يؤدي إلى القول: بأن التاريخ علم، وبأنه لا ينفصل في ذلك كثيرًا عن العلوم الطبيعية، وبأنه بعيد عن مستوى "الفن" الخاضع للذاتية.
وبالتالي فإن إطلاق مصطلح "فن التاريخ" عليه - عند بعضهم - يكون من باب التجوز، أو يكون إطلاقًا خاطئًا نشأ من سيطرة المناهج التقليدية في دراسة التاريخ.
وجدير بالذكر أن الحديث عن فلسفة التاريخ أو تفسيره لا بد أن يتصل اتصالاً وثيقًا بقضيةِ علمية التاريخ؛ فهُما - في الحقيقة - وجهان لعملة واحدة.
وعندما نصل إلى الحديث عن ابن خلدون ومدى علمية التاريخ عنده، اعتمادًا على أنه أحد الفلاسفة المسلمين الكبار، الذي أبرز بعض قوانين الحركة التاريخية، مثل: قوانين السبب والمسبب، والتشابه والتباين، والاستحالة والإمكان، والجغرافية والبيئة وصلتها بتكييف الحضارة، والعصبية وصلتها بكِيان الدولة سقوطًا وصعودًا - عندما نصل إلى ابن خلدون، نجده أقرب ما يكون إلى القول بعلمية الحركة التاريخية، وأنه بالإمكان استخلاص قوانينها الاجتماعية المطردة، وهذا أمر يتساوى مع بنائه الفكري، بل هو جوهر تجديده، وأبرز ما انتهى إليه إبداعه، وما استحق من أجله الريادةَ والفضل.
لقد كان ابن خلدون مدركًا لثلاث قواعد إسلامية في تفسير التاريخ، عجز كثيرٌ من مفسِّري التاريخ المعاصرين عن إدراكها:
أولاها: أن التاريخ علم، لا يقل عن بقية العلوم الكونية، حتى إن عجزْنا عن اكتشاف كثيرٍ من مفاتيح القوانين التاريخية؛ نظرًا لأن الظواهر الاجتماعية أعقدُ من الظواهر الطبيعية.
وثانيها: أن هذه القوانين التي يمكن أن تخضع للسببية بطريقة حاسمة لا تتناقض مع فعل الله وإرادته وقدرته في التاريخ؛ إذ إن هذه الأسباب المادية هي وسائلُ الله، وهي جنوده وتعليماته الصارمة، بل هي الجِبلَّة التي فطر اللهُ الأشياء عليها، وهداها لتحقيق مشيئته - التي هي وظيفتها - من خلالها.
وتأتي المعجزات لتكشف بين الحين والحين عن يدِ الله الخفية القادرة، التي تبطل الوسائل، وتغيِّر التعليمات، في حالات استثنائية، ولظروف طارئة!
بل إن إرادة الله تعطي الوسائلَ والأسباب عنصرَ الفاعلية والإيجابية والبقاء، وتزوِّدها بإمكانيات رصد المستقبل - في حدود - واكتشاف بعض الآفاق الضرورية لنمو الحياة ورقيِّها؛ تحقيقًا لقوله -تعالى-: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ [فصلت: 53]، واكتشاف الأسباب وتسخيرها هو هذه الآيات.
ثالثها: أن ما يشاع عن وجود فوارقَ كثيرةٍ بين مستوى الثبات والاطراد في العلوم الطبيعية، وبين قوانين الحركة التاريخية - هو نوع من المبالغة؛ فالحق أن الفوارق بينها هي في النسبة لا في النوع؛ فهذه العلوم "العلمية" ذات "القوانين العلمية الثابتة" تتعرض كذلك لتحولات نسبية وتغيرات - بل وتناقضات - لا تقلُّ عن النسبية والتحول في العلوم الإنسانية.
لقد استعمل ابن خلدون كلمة "فن" كثيرًا وهو يتحدث عن علم التاريخ، وهذا الاستعمال الذي جاء في مثل قوله: "إن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم"، أو قوله: "اعلم أن فن التاريخ..."، أو قوله: "صار فن التاريخ واهيًا"، هذا الاستعمال لا يعني إطلاقًا الميلَ إلى أن التاريخ "فن" بالمعنى المعروف لمصطلح "فن"، وهو أنه الإبداعُ القائم على الاتساق والذاتية والحرية في نسيج واحد.
فالشائع لدى أسلافنا - رحمهم الله - أن كلمة "فن" تخضع لكثيرٍ من القوانين والاطراد، وهي تطلق عندهم على علوم الطبيعة والكيمياء والجغرافيا.
وبدليل آخر، هو أن ابن خلدون أطلق - كذلك - كلمة علم التاريخ في عملية مزج بين المصطلحين تخضع لرؤية تراثية؛ فقال مثلاً: "التاريخ علم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق"، وقال: "المقدمة في فضل علم التاريخ"، وهكذا.
ويرى أحد المفكرين المعاصرين أنه من السهل ملاحظة التقارُب بين رأي ابن خلدون ورأي العلماء المعاصرين؛ فالعناصر الأساس في تعاريفه هي: الإنسان الماضي "والتقليب"، وهي مطابقة للعناصر التي وجدناها في تعاريفهم، بل يزيد على ذلك وجودُ التفلسف والتعليل، واكتشاف أسباب الحوادث[3].
لكن هذا المفكر المعاصر يرى - مع ذلك - أن ابن خلدون لا يرى علمية فلسفة التاريخ (في الرؤية الخلدونية)؛ لأن هذه القوانين المزعومة ليست مطلقة، والشاذ منها قد لا يقل عن القياس، والمهم في ذلك أن المؤرخَ - يعني: ابن خلدون - قد أبطل سلطانَها بنفسه؛ لأنه آمَنَ بالمعجزات، وقال بالسِّحر والطلسمات.
ثم يقرر الباحث - في حسم - أن ابن خلدون عرَّف التاريخ تعريفًا جامعًا يقبَلُه حتى علماء العصر الحاضر، وأنه وضع لدرس التاريخ أهدافًا مشابهة لأهدافهم، ولكنه لم يجعل من التاريخ علمًا بالمعنى المفهوم في الوقت الحاضر، رغمًا عن ابتكاره في فهم العمران والحضارة فهمًا لم يسبِقْه إليه علماءُ المسلمين[4].
والحق أن "العلمية" عند ابن خلدون - كما أوضحنا - لا تعني الاطراد الحتمي؛ فهذا الاطراد الحتمي غيرُ موجود حتى في العلوم الطبيعية، إن يد الله تسُوق الطبيعة الكونية والاجتماع البشري لمشيئة واحدة، والفَرْق يكمن في قدرتنا على الفهم والاستنباط، وليس من فعل الله، وحتى مساحة الحرية الممنوحة للإنسان تخضع لقوانين حضارية وأخلاقية، قد لا نبصر آثارَها إلا بعد أمدٍ من الزمان نَعجِزُ معه عن الربط بين الأسباب والنتائج، فضلاً عن أن القوانين كلها - كما ذكرنا - إنْ في الطبيعة أو في الإنسان - ليست صارمةً بالمعنى الماديِّ الذي يريد أن يُلغِيَ المقنِّنَ والمسبِّب؛ اعتمادًا على اطراد القانون والسبب.
ويشير باحث معاصر لهذه الحقيقة بعبارة واضحة، فيرى أننا - على ما يبدو - أمام صياغة جديدة للعلم، يبتعد فيها عن الحتمية، ويسلم بمفاهيم العشوائية وعدم الثبات واللاخطية، وبأن الطبيعة تتضمن مظاهرَ جوهرية لعشوائية الأحداث والانعكاسية، وبأن القوانين الحتمية التي صِيغتْ على امتداد القرون الأخيرة لا تنطبق إلا على حالات قليلة جدًّا مما يحدث في الطبيعة، إن طبيعية مألوفة وشائعة مثل اضطراب سريان الموانع والانتشار والتفاعلات الكيميائية - يستحيل وصفُها بالقوانين الحتمية، ولا تَكرار لحدوثها بنفس الشكل.
إن النتيجة المنطقية لهذا هي انعدام إمكانية التنبؤ بما سيحدث!
إن هذا التحول الجذري قد أدى إلى تقارب في المنهج بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، وإذا ما كان هذا التقارب قد بدأ أيضًا بتحرك العاملين في العلوم الاجتماعية نحو تطبيق كثير من أساليب البحث في العلوم الطبيعية، مثل: التحليل الإحصائي، والنمذجة الرياضية، فإن الصياغةَ الجديدة للعلم الطبيعي - والتي تتبلور الآن أمام أعيننا - قد أظهرت أن النظم المعقدة التي تدرسها العلوم الاجتماعية ليست أكثر تعقيدًا من النظم الطبيعية.
إن الصياغة الجديدة للعلوم الطبيعية تسمح الآن - مثل العلوم الاجتماعية - مع وجود المعلومات غير الكاملة وأوضاع عدم الاستقرار في القيم (!) بالتسليم بإمكانية صعود أشكال متباينة للمستقبل، وتدعو إلى اهتمام أكثر تركيزًا على منظومة القِيَم في النظام الاجتماعي، والبُعد عن المحاولة اليائسة لصياغة علوم اجتماعية غير محملة بالقيم[5].
والحقيقة أن القصور في استقصاء كل حضارات التاريخ ووقائعه الجزئية لا يمثل خللاً رئيسًا في العملية التفسيرية للتاريخ، وإني لأستطيعُ أن أزعمَ أن العلم الطبيعي ليس أفضلَ كثيرًا من العلوم الإنسانية في هذا السبيل.
فالقوانين المستنبطة من الطبيعة لا تخضع لمنهج الاستقراء التام، وإلا لفقدتْ قيمتَها - من جانب - وأيضًا فإن ذلك غير ممكن، فضلاً عن أن الاستقراءَ التام لا يخدم مستقبل العلم في شيء ذي بال، وقد تعرَّضت المادة (التي يهلِّل بعضهم لثباتها) لكثير من التشكيك.
فعلم الطبيعة الذي يعد في رأي كثير من العلماء أوثق العلوم منهجًا ونتائج بحث، لم تستقرَّ أسسُه أو قواعده الأساس، فضلاً عن نتائجه حتى الآن.
فبعد هذه الرحلة الطويلة مع هذا العلم، يزعم العالم الرياضي الكبير (برتراند راسل) أنه علمٌ يقترب فقط من الكمال، وقولُه هذا مبالَغ فيه.
وقد رد عليه كثير من العلماء، مثل (هنري بوانكارية) الذي يرى أن علم الطبيعة الحديث في حالة من الفوضى؛ فهو يعيد بناء جميع أسسه، وفي أثناء ذلك لا يكاد يعرف هذا العلم أين يقف، وقد تغيرت أفكاره الأساس عن حقيقة الطبيعة تغيرًا تامًّا في العشرين سنة الأخيرة فيما يختص بالمادة والحركة كلتيهما، ولم تعُدْ تسمح أعمال كوري ورذل فورد وسودي وآينشتاين ومينكوفسكي لأي تصور قديم عن الطبيعة "النيوتونية" بالبقاء (نسبة إلى نيوتن)؛ أي: إن عالَم نيوتن ونظرية النظام الوحيد للعالم - قد أصبحت مجرد أثر تاريخي متحفيٍّ، ولم تعُدْ مسألة التثاقل (Gravitatopm) مسألةَ جاذبية، بل تمزقت قوانين الحركة في كل جهة بنظرية النسبية.
وحتى في منهج البحث الذي وُصف طويلاً بأنه المنهج العلمي، فإنه قد تغيَّر، ولم يعُدْ يبحث في المادة - أي: المحسوس والحقائق الواقعية - بل أصبح مجموعة من القوانين المستوردة المجردة[6].
وقد أعجبني عندما كنت أقرأ كتاب "النظرية العلمية" لبرتراند راسل عنوانٌ لفصل وضعه المؤلف تحت اسم: (الميتافيزيقا العلمية)[7]، وقد تساءلت: هل ارتفع العلم إلى "الميتافيزيقا"؟ أم أنه هبط إلى منهجها - كما يقولون - بعد هذا الغرور الذي سيطر على الماديِّينَ؟!
وفي هذا الفصل (الميتافيزيقا العلمية) يسجل (راسل) أسفه؛ لأن رجل الشارع ما كاد يؤمن بالعلم، حتى بدأ رجل العلم يفقد إيمانه به؛ بحيث إن الفلسفة الجديدة لعلم الطبيعة فلسفةٌ متواضعة متلعثمة، بينما الفلسفة السابقة متكبرة متغطرسة.
لقد كان مفكرنا العظيم عبدالرحمن بن خلدون مدركًا بل مسلَّحًا برؤية إسلامية واضحة في تفسير التاريخ، ولم يجد أي تناقض بين الأسباب وإرادة الله، وبين الأسباب ونسبية الاطراد، وبين العلم والفن، وبين القوانين السببية والمعجزات الإلهية!
بل إنه كان أسبق في معرفة أن الفواصل بين القوانين الطبيعية والاجتماعية ليست كبيرة؛ لأنها تتحرك بإرادة واحدة، وتخضع لمشيئة واحدة، وتهدف لغايات واحدة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن ابن خلدون يحتل مكانة في ريادة علم "تفسير التاريخ" على أساس موضوعي بحت، يتمثل في أن مقدمة ابن خلدون وما تلاها من أجزاء كتابه "العبر" - يُعدَّانِ بحقٍّ المحاولةَ الأولى لإعطاء تاريخٍ عالمي معلل، كما يُعَدَّان النظرية المتكاملة الأولى في التاريخ الإنساني لتفسير التاريخ.
وقد اتسمت منهجية ابن خلدون بالشروط الأساس لتفسير التاريخ، تلك التي لا يقوم (علم تفسير التاريخ) بدونها، وهي:
1- الشمولية العالمية في النظرة إلى التاريخ، أو حسب تعبير بعضهم "النظرة الكلية": فالتاريخ المحلي أو النظرة الجزئية المحدودة لا يمكن أن تشكل أساسًا لتفسير التاريخ، ولا ينتظر أن يستقرئ كلُّ مفسر للتاريخ سائرَ الأمثلة التي تقدِّمها الوقائع التاريخية في سائر الحضارات؛ فذلك عمل - وإن كان هدفا مثاليًّا - إلا أن تطبيقه من الصعوبة بمكان كبير، وحسْبُ مفسِّر التاريخ أن يقدِّمَ شرائح من حضارات مختلفة، بحيث تكون نتائجها المستخلفة صالحةً للتكرار والتعميم.
2- العِلِّية: فلا تفسير بدون تعليل، ولن تتحقق العبر واستخلاص السنن والقوانين بدون هذه العِلِّية، وأي فلسفة في أي علم من العلوم لا بد أن تعتمد على التعليل، وهذا من الفروق الأساس بين المنهج التاريخي التقليدي، والمنهج الحضاري أو منهج تفسير التاريخ.
والتعليل - أيضًا - يكون قابلاً للتَّكرار في أطرٍ حضارية أخرى، ولا بد أن يكون عامًّا شأن سائر القوانين، وأما التعليل الجزئي الذي يشبه (الحكمة) الخاطفة، فإنه لا يرقى إلى التعليل المطلوب لتفسير التاريخ.
والتعليل التاريخي الذي يعتمده مفسرُ التاريخ ليس تعليلاً جزئيًّا - كما ذكرنا - وليس تعليلاً خارجيًّا، بل هو تعليل باطني[8] مستقًى من الرؤية الشاملة الفلسفية لِما يقبع خلف الوقائع الظاهرة، إنه نظر إلى الواقعة من داخلها، ومن نقطة الإحاطة بكل جوانبها، ومِن رَبْطها بإطارها العام.
3- الفكر: فإذا كان المؤرخ مجرد مسجِّل للحدث، باحثٍ عن الطريق الصحيحة لإثباته، فإن مفسِّر التاريخ يحتاج إلى عمليات فكرية معقَّدة في محاولة لجمع جزئيات الماضي، ولاستحضاره من حاضره؛ عن طريق بنائه بناءً تركيبيًّا، ولاستخلاص أسباب اتجاهه للإيجاب أو السلب، فالجانب المعرفي والفكري أساسٌ لمفسر التاريخ.
4- الحركة أو "الديناميكية": المفسر للتاريخ يقدِّم لنا صورة تبدو وكأنها إعادةٌ حية "متحركة" للواقع، حتى نحس بطبيعة العوامل التي تقف خلف الأحداث؛ ولهذا يلجأ فيلسوف التاريخ لرصد كل العوامل النفسية و"البيولوجية" والفكرية والعَقدية والاقتصادية، ويربط بينها، ويعطي لكل عامل حجمَه في مرحلته التاريخية.
أما المؤرخ، فيقدم لنا التاريخ أقربَ إلى السكونية الجامدة، التي تعطينا جانبًا معروفًا منظورًا، ولا تحرِّك فينا جوانبَ الاستحضار والتفاعل والبصر بالعوامل الباطنية، وفي مقدمة ابن خلدون، ومن خلال عرضه لنظريته - نستطيع أن نتحقَّقَ من وجود هذه الشروط التي تجعله - بالقياس الموضوعي البحت - مفسِّرًا للتاريخ!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  1. نقلاً عن أرنولد توينبي: مقال بعالم الفكر، المجلد الخامس، العدد الأول، الكويت.
  2. نقلاً عن د. أحمد محمد صبحي: في فلسفة التاريخ، 124 / 135.
  3. د. عبداللطيف الطيباوي: تاريخ العرب والإسلام، بيروت، دار الأندلس، طـ2، 1982م، ص 277، 278.
  4. المرجع نفسه، ص 281.
  5. أسامة أمين الخولي، في مناهج البحث العلمي: وحدة أم تنوع؟ مجلة عالم الفكر، عدد إبريل 1989، الكويت.
  6. ول ديورانت، مناهج الفلسفة، 1/72 بتصرف، ترجمة: أحمد فؤاد الأهواني.
  7. النظرة العلمية، ص 74، طبع مصر.
  8. انظر أحمد صبحي، فلسفة التاريخ، ص 139، طبع الإسكندرية.

لا ينكر أحد أن التاريخ أضحى على يد ابن خلدون علماً متكاملًا راسخاً، إذ لم يهتم بالتساؤل عن أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسأل أيضاً عن كيفية حدوثها. بل تقدم إلى مرحلة سامية في المعرفة، فتساءل عن سبب وقوع هذه الأحداث


لا مراء في أن عبدالرحمن بن خلدون (732 808هـ) رائدُ ومؤسسُ ما عرف لاحقاً في الغرب ب"فلسفة التاريخ"، وهي تلك الطفرة الفلسفية التي حولت دراسة التاريخ من مجرد سر للحوادث التاريخية، إلى تعليل لها واستنباط للقوانين التي تنتظمها، ليمكن التنبؤ بكيفية وقوعها مستقبلًا. ولقد حظي ابن خلدون بشهادات غربية عديدة تصفه وتنصفه بريادة هذه الفلسفة. يذكر الأستاذ خالد فؤاد طحطح في كتابه (في فلسفة التاريخ)، نماذج لتلك الشهادات، فينقل عن ( روبرت فلينت ) في كتابه: "تاريخ فلسفة التاريخ" أنه وصف ابنَ خلدون بقوله :"إنه منقطع النظير في كل زمان ومكان، حتى ظهور فيكو بعده بأكثر من ثلاثمائة عام. ليس أفلاطون ولا أرسطو ولا القديس أوغسطينوس بأنداد له، وأما البقية فلا يستحقون حتى الذكر بجانبه". وعن (جورج سارتون) بأنه قال عن ابن خلدون" لم يكن فحسب أعظم مؤرخي القرون الوسطى شامخاً كعملاق بين قبيلة من الأقزام، بل كان من أوائل فلاسفة التاريخ، سابقاً ميكافيلي وبودان وفيكو وكونت وكورتو". أما المستشرق الفرنسي ( سيلفيستر دي ساسي) فقد عد ابن خلدون"مونتسكيو العرب".
لقد كان التاريخ قبل ابن خلدون عبارة عن تسجيل سردي لحوادث السنين، وقيام الدول وتطورها واشتداد عودها، ومن ثم هرمها وسقوطها، إضافة إلى وصف أحوال الجماعات والأفراد. وهو المعنى الذي أكده ابن خلدون عندما وصف التاريخ قبله بأنه" لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأولى". بمعنى أن الأحداث التاريخية، كانت قبل الريادة الخلدونية، تُروى على علاتها دون أن يتساءل المؤرخون عن مدى اتفاقها أو اختلافها مع قوانين الطبيعة، أو مع قوانين الاجتماع البشري، أو بلغة ابن خلدون"طبائع العمران البشري".
يقول الأستاذ خالد طحطح في كتابه الآنف الذكر: "كان التاريخ قبل ابن خلدون لوناً من ألوان الأدب، ونوعاً من أنواع المسامرة، وسرداً للحوادث. لقد كان الأقدمون ينظرون إليه كديوان أخبار، ولم يعدوه علماً من العلوم له قواعده وأصوله وأسسه ومناهجه. ولا ينكر أحد أن التاريخ أضحى على يد ابن خلدون علماً متكاملًا راسخاً، إذ لم يهتم بالتساؤل عن أحداث الماضي وتسجيلها، وإنما كان يسأل أيضاً عن كيفية حدوثها. بل تقدم إلى مرحلة سامية في المعرفة، فتساءل عن سبب وقوع هذه الأحداث".
وهذا الطابع السردي الأسطوري للتاريخ قبل ابن خلدون، يؤكده أحد أكبر المؤرخين المسلمين: أبو جعفر بن جرير الطبري، إذ قال في مقدمة سفره التاريخي( تاريخ الأمم والملوك ):" فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً من الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤتَ من قبلنا، وإنما أوتي من بعض ناقليه إلينا، وإنما أديّنا ذلك على نحو ما أودّي إلينا". هنا يؤكد الطبري أنه مجرد ناقل للخبر، لكن كيفية وقوع الخبر، أو الحدث، وهل هو متوافق مع السنن الطبيعية أو الاجتماعي، فذاك خارج عن المفكر فيه عنده. ويشئ هذا النص بأن الطبري كان يحس بشناعة وخرافية بعض الأخبار التي ينقلها، لكنه لم يكن قادراً على تجاوز السقف الاجتماعي التاريخي لمهمة المؤرخ حينها.
جاء ابن خلدون في النصف الثاني من القرن الثامن الهجري فنقد تلك الطريقة غير العلمية في جمع التاريخ، لأنه لاحظ، كما أبان في خطبة كتاب العبر، "أن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها. واقتفى تلك الآثار الكثيرُ ممن بعدهم واتبعوها‏.‏ وأدوها إلينا كما سمعوها. ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال، ولم يراعوها".
والسؤال هنا هو: لماذا انتقد ابن خلدون تلك الطريقة التقليدية في جمع المادة التاريخية؟
الجواب: لأن التاريخ في نظره" نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق". ومن ثم فإن هذا التوصيف الخلدوني الجديد لعلم التاريخ، يتطلب من المؤرخ، لا جمع المادة التاريخية فحسب، بل ربط الحوادث التاريخية بعللها وأسبابها، وتقصي تلك العلل والأسباب التي كانت خلف تلك الحوادث. ذلك أن أحداث التاريخ، وفقاً للنظرة الخلدونية، لا تحدث اعتباطاً أو خبط عشواء، بل إن لها أسباباً ومقدمات هي بمثابة علل لها. ومن ثم، فإن مهمة علم التاريخ هي البحث عن هذه الأسباب والعلل، ليحددها ويظهرها ويمسك بزمامها، ليكون قادراً على استنباط القوانين التي تتحكم فيها، ومن ثم إمكانية التنبؤ بها مستقبلًا. لأن الأخبار، كما يقول ابن خلدون "إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، ولا الحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق".
من هنا فإن المؤرخ محتاج، كما يقول ابن خلدون، إلى "العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك. ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على أصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها، ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خبر. وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول، فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفه واستغنى عنه".
ترتب على تدشين هذا العلم الجديد القولُ بأن للتاريخ غاية يسعى إليها من خلال حوادثه، وخلال جريانه. فابن خلدون اعتبر غاية التاريخ تتحدد فيما عرف ب"التعاقب الدوري للحضارات"، حضارات(=دول) تقوم ويشتد عودها فتهرم وتموت ويخلفها غيرها وهكذا. أما رواد فلسفة التاريخ في الغرب، والذين تتلمذوا على تراث ابن خلدون فيما يخص فلسفة التاريخ، فقد كان لكل منهم رأي خاص في غاية التاريخ. فلقد جاء الفيلسوف الألماني الكبير( هيجل) في القرن الثامن عشر ففسر حوادث التاريخ بأنها صراع بين الأضداد، وأن التاريخ يسير إلى غاية سامية هي حرية الروح. أما تلميذه كارل ماركس فنظر إلى حوادث التاريخ على أنها صراع بين طبقات تنتصر فيه الطبقة المنسجمة مع وسائل الإنتاج، وأن الصراع سيظل قائما حتى تفوز طبقة العمال، ليتحول المجتمع إلى المرحلة الأخيرة فينتقل إلى الشيوعية حيث لا وجود للطبقات. وفي فرنسا كان الفيلسوف ( فولتير) ينظر إلى التاريخ على أساس أنه تقدم نحو الإنسانية الشاملة. أما الإنجليزيان (اشبنجلر وتوينبي) فقد تبنيا رؤية ابن خلدون، في النظر إلى التاريخ على أنه تعاقب دوري بين الحضارات، بمعنى أن للحضارات عمراً كعمر الإنسان، تولد ثم تشب ثم تهرم ثم تموت، ثم يخلفها غيرها وهكذا.

نحن الآن نعيش في القرن الواحد والعشرين. فهل يعي كثير منا  طبيعة هذا العالم الذي نعيش فيه؟ ينصحنا هيجل، لكي نفهم هذا العالم وهذا العصر، ولا نعيش فيهما غرباء، علينا أن نفهم قوى التغيير التي تعمل داخلهما.
في كتابه الرائع، "تجسد الروح"، حاول هيجل فهم طبيعة النفس البشرية، عن طريق النظر إلى جذور تكوينها في الماضي. كتاب "تجسد الروح"، سيرة شخصية. لا لشخص معين، ولكن للروح الإنسانية بصفة عامة، على مر العصور. تتابع تطورها ونموها ونضوجها.
يقوم هيجل بوضع كل خبرات وتجارب العالم أمامك. بما تحتويه من أديان وإيمان ونظريات علمية وآراء فلسفية وحركات فنية. ثم يسألنا: أي نوع من البشر نحن، وما تأثير  هذه التجارب والخبرات فينا؟ 
كيف تعمل  هذه الخبرات والإنجازات، وما السبب في عجزها وقصورها عن فهم الحقيقة كاملة؟ الذي يظهر لنا، هو جانب واحد من الحقيقة. لا يخلو من التشويه والعيوب.   
يبدأ هيجل كتابه، بالحديث عن تاريخ الفلسفة. حيث تتعارض وتتصارع الأنظمة والنظريات الفلسفية مع بعضها. تذهب من النقيض إلى النقيض. يدعي كل فليسوف، وكل  نظام فلسفي، أنه وجد الحقيقة نفسها التي لا يوجد بعدها حقيقة. ولسان حاله يقول: "أنا اللي فيهم، وكلهم ركشُ"، كما يقول المثل الشعبي.
الدارس لتاريخ الفلسفة، يلاحظ شدة العداوة بين الفلسفات المختلفة. بدءا بالتصادم بين أفكار هيروقليطس وبارمنيدس. ثم التعارض بين أفلاطون والسفسطائيين. وبين وهيوم وديكارت، ثم كانط وهيوم. كل منهم يناقض الذي قبله.
يشير هيجل إلى أن كل فيلسوف، يعتقد أنه قد توصل إلى الحقيقة التي تجُب كل الفلسفات التي قبله، ويعمل على تشويه سمعة من سبقوه. يعتقد هؤلاء المفكرين، أن الحقيقة الفلسفية التي تم الوصول إليها، هي حقيقة نهائية ثابتة صلبة جامدة. وبالتالي يمكن الدفاع عنها ضد هجوم أي فلسفة معارضة.
هؤلاء الفلاسفة، لا يفهمون معني اختلاف النظريات الفلسفية. الفهم الحقيقي لهذا الإختلاف، هو أنه لا يمثل أزمة وعداوة بين أفكار مختلفة، ولكنه يدل على نمو وتطور الحقيقة. حتى الحقيقة تتطور. "الله يرحمك يا شارلز داروين ويحسن إليك، ويفشفش الطوبة اللي تحت راسك". فشفشة الطوبة التي تحت الرأس، هو دعاء البسطاء للميت. حتي يكون مراتحا في قبره.
إختلاف النظم الفلسفية، لا يجب أن ينظر إليه على أنه حروب بينها. هذه النظم المختلفة، ما هي إلا عناصر متنوعة في كائن حي أو وحدة عضوية واحدة.
الفلسفة، وباقي الحقائق وكل  المخلوقات الحية، تتكون من أجزاء مستقلة. لكل منها وظيفته المختلفة. يشبه هيجل تاريخ  الفلسفة بشجرة الفاكهة. النظريات الفلسفية على مر العصور، تشبه مراحل نمو الفاكهة. البراعم تتحول إلى زهور، والزهور إلى ثمار.
كل فليسوف في زمانه، يمثل مرحلة هامة من مراحل تطور الفلسفة. البراعم تختفي، لتفسح مكانا للزهور. والزهور تختفي، لكي تنمو مكانها الثمار. ولا ننظر نحن للبراعم والزهور على أنها أشياء غير حقيقية. ولكن مراحل نمو عضوي لثمار الفاكهة.
كان هيجل من أوائل الذين استخدموا مفهوم الكائن الحي أو العضوي لوصف الفلسفة. كل الفلسفات عبارة عن أجزاء أو مراحل تطور لهذا الكائن العضوي. بنفس الأسلوب، يمكننا فهم الفكر الإنساني والمجتمعات والمؤسسات والتاريخ.
 لقد تأثر بفكرة هيجل، "الكائن العضوي"،  كل من عاصروه، والذين أتوا من بعده. فنجد جوته ينظر إلى الطبيعة على أنها كائن عضوي واحد حي.
الشعراء "شليجيل" و"وردزورث" و"نوليريدج"، كانوا يعتبرون الفن  وحدة عضوية واحدة. وكذلك فلاسفة الإجتماع، روسو وهيردير وبورك. لم يكونوا ينظرون إلى المجتمعات على أنها مجموعة أفراد مستقلة. لكن كل مجتمع، عبارة عن وحدة عضوية واحدة،  مثل أي كائن حي.   
تحدث هيجل عن موضوع لم يعره ديكارت أو هيوم أي إلتفات من قبل. وهو موضوع "التاريخ". هذا مفهوم جديد، عندما نضيفه  لمفهوم الكائن العضوي، يصبح لدينا أسلوبا ناجعا لفحص كل قضايانا ومعارفنا وخبراتنا الماضية.
نظرية هيجل الخاصة بالتاريخ تسمى: "Historicism". تقول أنه لفهم الإنسان، يجب أن نفهم تاريخه. كيف تطور فكريا؟ وما هي جذور هذا التطور؟ بدلا من الإكتفاء بسرد الأحداث في تسلسل زمني ممل. هيجل يقول، إن كل ظاهرة إنسانية، هي ظاهرة تاريخية.
لكي نفهم فلسفة معينة أو نظرية معينة ولتكن نظرية دارون مثلا، لا يجب أن ننظر إلى النظرية في حد ذاتها بمعزل عن أحداث التاريخ، وما كان يدور وقتها. علينا أن نبحث عن الأسباب التي دعت هذا الفليسوف، أو هذا العالم، أو جمال عبد الناصر، إلى تبني هذه الأفكار، وإصدار تلك القرارات؟ لماذا كان على السادات أن يمشي في طريق مخالف للطريق الذي سار فيه عبد الناصر من قبل؟
ماذا يعني هذا بالنسبة للفلسفة؟ يعني أن هيجل قد أمدنا بطريقة جديدة للنظر للأمور الفلسفية. الفلسفة لم تعد تفهم كما كان يفهما أفلاطون أو ديكارت أو هيوم. أي فلسفة واحدة صحيحة، تجُب ما قبلها من فلسفات. معنى الفلسفة يتضح فقط في إطار تطورها التاريخي. الفلسفة هي، بصريح العبارة، تاريخ الفلسفة.
في كتابه تجسد الروح، يرى هيجل أن الوقت قد حان لتقديم فلسفة جديدة، لا تتكلم فقط عن أشياء وخواصها كما فعل ديكارت، ولكن تأخذ في إعتبارها "وعي الإنسان" الذي يساهم في خلق هذه الأشياء. الحقيقة لا تقع في الأشياء نفسها، ولكن في درجة معرفتنا لهذه الأشياء.
الحقيقة، هي أيضا شئ حي، دائم التغير. الحقيقة، هي روح الإنسان. تطورت جدليا عبر القرون، عن طريق كل فروع الفلسفة عبر التاريخ.
الفلسفة الجديدة، بدت واضحة الآن. تأخذ كل التغيرات والمعتقدات الدينية والفلسفات عبر التاريخ، وتضعها فيى جسد واحد حي عضوي. أي في نظام جدلي واحد تتصارع فيه الأضداد للإرتقاء بالفكر الإنساني.
بالنسبة لتطور الوعي عند الإنسان، يقول هيجل، أن النفس في البداية، كانت مرتبطة بالأشياء عن طريق الرغبة. أو كما نقول نحن بالبلدي، "الواحد نفسه في الحاجة دي".
النفس ترغب في الأشياء التي تجد فيها متعة، لأنها تحقق حاجة الجسد. وتجد أيضا متعة في التحضير ومناولة وإستخدام هذه الأشياء. نحن نجد متعة في تحضير الوجبات، وتربية الحيوانات...إلخ. ثم نقوم بذبحها وأكلها وإفنائها.
عندما نمضغ الطعام، نحن ندمره. وعندما نأخذ قضمة من تفاحة، نحن نشوهها. ونجد متعة أيضا في تمزيق الورق وتهشيم الزجاج،...إلخ. وفي غلبة الآخرين، مثل الحروب والألعاب الرياضية. لأن هذا يعطينا الإحساس بالسيطرة والغلبة. ماتش مصر والجزائر في السودان.
نحن كائنات تحب السيطرة. تاريخنا يثبت ذلك. يرى هيجل أن هذه السيطرة، هي دليل على "مبدأ النفي"، والذي يسميه هيجل في بعض الأحيان "مبدأ الموت". 
مبدأ النفي نجده في كل الفكر الإنساني. وهو الذي يولد التعارض. التعارض لكل فرضية، أو "النقيضة" لكل "طريحة".  مبدأ النفي هذا، كما يقول هيجل، موجود في خصائص النفس بالنسبة للرغبة في الأشياء. وبالنسبة للرغبة في تحطيمها بصورة أو بأخري.
مبدأ النفي أو الموت تجاه الأشياء، لا يجد صعوبة عندما يكون الشئ تفاحة أو قطعة لحم. لكن، كيف نفسر مبدأ النفي، إذا كان الشئ إنسانا آخر؟
يقول هيجل، أن الرغبة لا تزال موجودة في السيطرة علي الآخر. عن طريق الإحتواء، والنفي، والقتل، والتعذيب، وغسل المخ، والإعتقال، والكبت،...إلخ. لكن، النفس الأخري لديها نفس الرغبة، وتبغي قتل النفس الأولي التي لا تستطيع السيطرة عليها. كل منا يريد في قرارة نفسه قتل الآخر، للسيطرة عليه.
تدخل النفس الأولى والثانية فيما  أما أسماه هيجل ب"الصراع حتي الموت". في هذا الصراع، يخاطر كل منهما بحياته لقتل غريمه. لكن التغلب على الخصم، لا يأتي بكل الرضا.  كل الرضا يأتي من جعل الخصم يعترف أنه قد هزم بواسطتي.
ما تبغيه النفس،كما يقول هيجل، ليس السيطرة على أجسام الآخرين فقط، ولكن السيطرة على نفوسهم أيضا. الهدف هو أن تعرف النفوس الأخرى، بأنني أنا المسيطر عليها والمتحكم فيها. إننا نري هنا حرص رجال الدين والحكومات المستبدة، على السيطرة على شعوبها.
لكن هناك نقطة هامة. أنا أريد النفس الأخرى تظل موجودة، حتي تعي وجودي وتعلم "أنني ابن جلا وطلاع الثنايا، متى أضع العمامة تعرفوني". أنا أحتاج لكي أعي وجودي، وجود نفس أخرى تعرفني كنفس.
وجهة نظر هيجل هنا أننا لا نستطيع إدراك أنفسنا، إلا عن طريق نفس أخرى. تعمل كمرآة لوجودنا. هنا نجد هيجل على عكس ديكارت تماما. الذي يقول بأن النفس توجد بمفردها. "أنا أفكر، إذن أنا موجود".
هيجل يقول، أنا لا أستطيع أن أعرف نفسي في عزلة. في السجن الإنفرادي. أنا أعرف نفسي لأنني أراك تنظر وتبحلق في، وتستجيب لى كنفس. الوعي بوجودي، يستلزم وجود نفس أخرى.
إذا قمت بقتل النفس الأخرى، في عملية "النضال حتى الموت"، فسوف أخسر شيئين. أولا: إذا توفى الآخر، فلن أحصل على الرضا المصاحب لبقائه حي ومعرفته بأنني قد نجحت في السيطرة عليه. ثانيا: عند موت الآخر، فلن تكون هناك نفس أخرى تتحقق من وجودي كنفس. أي أنه في هذه الحالة، لن توجد مرآه، أري فيها نفسي.
المرحلة الثالثة لتطور الروح، التي أسماها هيجل تجسد الروح، هي مرحلة "السيد والعبد". في المرحلة السابقة، مرحلة "الصراع حتي الموت"، يدرك المنتصر أنه من الأفضل له إبقاء غريمه على قيد الحياة، واستغلاله وتحويله إلى عبد له.
يقول هيجل أن مرحلة "السيد والعبد"، نجدها في المجتمعات البدائية. ونجدها أيضا أثناء الحروب. عندما ينتصر إنسان على إنسان آخر.
لكن هذه العلاقة مليئة بالتعارض والقصور. عندما يقوم شخص بإستعباد الآخر، وتحويله إلى مجرد آلة تعمل فقط لخدمته. يصبح السيد، في نفس الوقت، في حاجة للعبد.
مع مرور الوقت، ومع استمرار العبد في خدمة سيده، يجد العبد نفسه في العمل الذي يقوم به. سوف يكتشف أنه ليس عبدا. بل هو كائن مستقل كوعي. له عقل وإرادة لها قوتها الخاصة.
الجزء الخاص بعلاقة السيد بالعبد، التي جاءت في كتاب هيجل  "تجسد الروح" المكون من 800 صفحة، تعتبر أهم الأجزاء. ومن هذا الجزء، بدأت فلسفة هيجل الجدلية.
بعد مرحلة "السيد والعبد" بما فيها من تناقضات وصراعات، تنتقل روح الإنسان إلى مرحلة رابعة. تسمى المرحلة الرواقية. وهي فلسفة كانت منتشرة في بلاد الإغريق والرومان، في سالف العصر والأوان.
الإنسان عند الرواقيين، لا يجب أن يكف عن طلب العلم والحكمة طيلة حياته. حتي يصل إلى حالة التنوير والعلاء المنشودة. وعليه أن يحرر نفسه من متطلبات الحياة وخصوصا ما له علاقة بالعواطف مثل الحب والكره والحقد والرجاء وخلافه.
الرواقي رجل حكيم، متقشف. قام بمجاهدة النفس وتخليصها  من كل أسباب الشقاء والبؤس. الرواقي ليس له إهتمام بأي شئ يجلب الألم  أو الخوف أو حتي الأمل والفرح. ومن الفلاسفة الرواقيين، سينكا وإبيكتيتوس وماركوس أورليوس، الإمبراطور الروماني في القرن الثاني الميلادي.
ماذا يعني هيجل بالوعي الرواقي؟ يعني بأنني يمكنني أن أكون مستقلا وحرا. سواء كنت عبدا أو إمبراطورا أو رئيس جمهورية.  عن طريق فهم القوانين التي تحكم هذا الكون، والقوانين التي تحكم سلوك الإنسان. عندما أكون قريبا من الطبيعة، تصبح القوانين التي تحكم الطبيعة، هي نفسها التي تحكم الإنسان.
يجنح الناس إلى الرواقية، في الأوقات العصيبة التي ينتشر فيها الفساد والإستبداد والخوف من العبودية والزبالة وتزوير الإنتخابات، مصحوبا بحب معرفة الحقيقة. وتصبح الرواقية، الملاذ الأخير . حيث الهدوء والسلام والإستقلال بعيدا عن هذه الأمواج المتلاطمة والعالم المضطرب.
لكن، حتى الرواقية لها قصورها. الذي يأتي معه النقيض وبذور فنائها. الرواقي يخاف العبودية مع أنه سيد قراره والمتحكم في أفكاره. لكنه لا يزال عبدا لقوانين الطبيعة والقوانين التي تحكم الإنسان. وهو أيضا مثل العبد، يعيش في عزلة، يطلب الزهد والتقشف. الرواقي ليست لديه الحرية للتمتع بالحياة، لكنه يتراجع ويتقوقع على نفسه ويعيش في عالم خيالي، يعتقد فيه أنه حر.
المرحلة الخامسة لروح الإنسان، تتخطى مرحلة الرواقية إلى مرحلة الشك. الرواقي يعتزل العالم وينسحب منه إلى مكان هادئ مسالم. لكن الشك، يجعل الإنسان رافضا لكل شئ تماما. الشك كقوة مدمرة تستخدم لنفي والتشكيك في كل المعتقدات والتجارب الخاصة والقوانين الوضعية.
ماهي حدود الشك؟ الشك يهاجم ويشكك في وجود النفس أيضا. ويقود الشك إلى نفسين لا نفس واحدة. نفس مسيطرة تعمل مثل "السيد"، ترفض كل شئ وتشك في كل شئ. ونفس مثل العبد، خاضعة ذليلة.
هذا التعارض بين النفس المسيطرة "السيد"، والنفس الخانعة "العبد"، يقود إلى مرحلة سادسة من تطور الروح. هي مرحلة الوعي الغير سعيد. وهي مرحلة التدين في العصور الوسطى. المتدين في العصور الوسطى، له نفس منقسمة إلى نصفين. بينهما صراع لا ينتهي. 
صراع بين نفس حقيقية  تتشوق للوصول إلى الله ولكنها لا تستطيع الوصول إليه. ونفس مزيفة تطلب متع الدنيا ونعيمها. الوعي الديني غير سعيد، لأنه يعرف أنه منقسم إلى نفسين لا نفس واحدة. تتصارعان كسيد وعبد.
تأتي المرحلة الأخيرة التي أسماها هيجل مرحلة "تجسد الروح". الوعي الديني بما في داخله من تناقض وتصارع، يقود إلى الحجة العقلية والفلسفة. الأفكار الدينية يجب أن تتحول من مجرد إيمان بحت، إلى أفكار يستوعبها العقل، تتوافق مع النظريات الفلسفية والعلمية.
النفس يجب أن تعلم أن الحقيقة العليا ليست شيئا مجسدا تعيه الحواس. لكن الحقيقة العليا، هي مجرد عقل شامل. تظهر نفسها عن طريق صراع جدلي داخل عقولنا المحدودة، خلال تاريخنا الإنساني. النفس يجب أن تدرك أيضا، أن الإنسان الحر، لا يجب أن يكون عبدا لأحد.
السيادة هي مطلب الإنسان. لكن هناك نوعا واحدا من السيادة يصلح للإنسان الحر. السيادة على جوانب الحقيقة التي تصلنا خلال حوادث التاريخ. حينئذ، لن يصبح هناك علاقة سيد وعبد. وتتحرر روح الإنسان وتصبح وعي متكامل مع الحقيقة العليا بالرغم من قصورها بالنسبة للمكان والزمان.
سنناقش الآن أهم أجزاء فلسفة هيجل وأكثرها شهرة وثراء، فلسفة التاريخ. فهل التاريخ له فلسفة؟ وهل التاريخ بصفة عامة، له معنى ودلالة؟ وهل هناك نمطا يمكن أن أستخرجه من أحداث التاريخ؟
للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نستعرض أحداث التاريخ ككل. لا يشغلنا هنا تراكم وحفظ المعلومات والوثائق التي تصف لنا حقيقة ما حدث هنا وهناك، الآن وبالأمس. الذي يجب أن يهمنا هنا، هو إختراق هذه المعلومات للبحث عما إذا كانت تعني شيئا، ومعرفة ما إذا كانت لها دلالات معينة ومعاني دفينة.
هل يمكن للأحداث المختلفة والمتفرقة والمعزولة عن بعضها، أن يكون لها دلالة معينة ومعاني خفية لا نراها بالعين؟ نعم. وسوف أوضح ذلك بمثال من علم الإحصاء.
ونحن أطفال، كنا نلعب لعبة "ملك أو كتابة". وهي أن نأخذ عملة معدنية على أحد وجهيها صورة، والوجه الآخر كتابة. ثم نلقيها في الهواء وننظر عندما تستقر على الأرض، أي وجه ظهر لنا.
إذا قمنا بإلقاء العملة مرة واحدة، فلا يمكن التنبؤ بظهور وجه معين بطريقة مؤكدة. أما إذا قمنا بإلقائها عشر مرات مثلا، فقد يظهر أحد الوجوه ست مرات والوجه الآخر أربع مرات، أو 7 و 3. في هذه الحالة، ستكون نسبة ظهور الصورة 60% أو 70%. وهي نسبة، لا يمكن التنبؤ بها بالضبط مسبقا.
لكن لو قمنا برمي العملة في الهواء ملايين المرات، وتسجيل عدد مرات ظهور الصورة. فسوف نجدها تقترب جدا من نسبة 50%. كلما زاد عدد المرات، كلما إقتربت نسبة ظهور الصورة من نسبة ال 50%.
هذه حقيقة ثابته من حقائق الحياة، لا نلاحظها في الحوادث الفردية، ولكن عندما ننظر إلى الحوادث مجتمعة. وهذا يعني، أنه عندما نقرأ ما بين سطور التاريخ، تبدأ الحقائق الخفية في الظهور.
أيضا حقيقة أن "السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة فساد مطلق"، كما قال اللورد البريطاني أكتون في نهاية القرن التاسع عشر. إذا تتبعنا سطور التاريخ، فسوف تتضح لنا هذه الحقيقة، حتي لو شذ حاكم أو إثنين عنها في عصر من العصور.
فلسفة التاريخ عند هيجل، تنبع من فلسفته المعروفة بإسم "المثالية المطلقة". التي تقول بأن الحقيقي عقلاني، يمكن معرفته عن طريق الصراع الجدلي بين الأضداد. فكرة "المثالية المطلقة" يجب تطبيقها في علم التاريخ، وفي كل العلوم.
هذا ما يعنيه هيجل بفلسفة التاريخ. المفاهيم العقلانية التي نستخرجها من التاريخ، لا تتعارض مع حقائقه، ولكنها تجعلنا أكثر فهما لهذه الحقائق.
 من "المثالية المطلقة"، جاء هيجل بفلسفة تاريخ العالم. فلسفة التاريخ، ليست الفلسفة الوحيدة التي تفسر حركة التاريخ. فنجد مثلا، القديس أوغسطين له "فلسفة التاريخ المسيحي"، وكوندورسيه له "فلسفة التاريخ" في عصر الأنوار. كارل ماركس له "المادية التاريخية". وهذه أهم أربع فلسفات تاريخية على مدى العصور.
بالنسبة لنا، كتاب "سندباد مصري" للدكتور حسين فوزي، يعتبر من أمتع كتب التاريخ. وهو أكثر من كتاب تاريخ عن حياة الشعب المصري. يمثل في رأيي ما يتحدث عنه هيجل بالنسبة للتاريخ المصري.
فلسفة هيجل التاريخية هي المشهد الذي تظهر فيه الحقيقة المطلقة واضحة جلية للوعي الإنساني. فهم التاريخ فلسفيا، هو صياغة للحقيقة بطريقة عقلانية، لجعلها واضحة جلية للعقل البشري. تفسر لنا جدليا، الهدف من هذه الحياة. وحكمة الله في سير الأحداث بهذا الشكل. وكما يقول  هيجل، أحداث التاريخ لها هدف من ورائها. غرض إلهي عقلاني نبيل.
لكننا نتساءل هنا، كيف يقول هيجل هذا الكلام الغير مفهوم؟ وهل التاريخ بأحداثه الخطيرة، يعتبر شئ عقلاني نبيل الغرض، وهو ملئ بالشر والظلم والقتل والحروب وسفك الدماء؟ كيف نفسر وجود الظلم والغبن الذي وقع على الطبقات الفقيرة إبان الثورة الفرنسية مما دفعهم إلى الثورة؟
وما تبريرنا لعهد الرعب وظهور دالتون وروبسبير ومارا بعد الثورة؟ وكيف نبرر مرض هيجل نفسه بالكوليرا وموته المبكر قبل الأوان، إذا كانت الأمور تسير على مايرام وفقا لمخطط إلهي حكيم؟
لم ينكر هيجل وجود الشر عبر التاريخ. وهو الذي جاء بتعبير "رعب التاريخ". وكان يقول بأن التاريخ مذبح مقدس، تقيد فيه الضحايا من البشر  وتقتل بدم بارد كقرابين؟
إذن، ما هو الغرض من هذه التضحيات البشرية. ما يزيد على مليون عراقي، تتفحم بالقنابل العنقودية وتقدم كقرابين. وشعب بأكمله تسرق أرضه ويشرد في بقاع الأرض. وحاكم يستولي على ثروة بلاده ويحكم شعبه بالحديد والنار، وينقله إلى العصور الوسطى. أين دور الله؟ وكيف سمح للشيطان أن يعبث بالتاريخ.
يقول هيجل أنه لو تتبعنا حركة التاريخ العالمي، فسوف نجد أن التاريخ كائن حي له روح. هذه الروح هي حرية الإنسان ووعيه بهذه الحرية. التاريخ يسير في اتجاه المزيد من الحرية للإنسان. نظام الجواري والعبيد قد إختفى أو كاد. وتحررت معظم الشعوب من الإستعمار والتبعية أو كادت...إلخ.
لكن، كيف يحدث هذا؟ وكيف يقود الشر إلى الخير؟ يجيب هيجل، بأن هذا يحدث لسببين. السبب الأول هو الفهم العقلاني للحرية. التي تحاول الحقيقة العليا إظهارها. السبب الثاني هو الرغبة والهوى لإشباع رغبات الإنسان الملحة. الإنسان يتحرك مدفوعا برغباته وغرائزه.
الرغبة والشهوة والشبق، أقرب إلى قلب الإنسان من القوانين والأخلاق التي تحاول كبح جماحه. نحن هنا نتذكر هيوم عندما قال بأن العقل عبد للشهوة.
إذا وضعت هدفا، أو قمت بتعديل الدستور، فهذا العمل يجب أن يخدم مصلحتي أنا وأولادي. لا شئ يحدث لوجه الله والحق. كل شئ يحدث وفقا لرغباتنا، الظاهرة أو الدفينة في العقل الباطن.
هذه الرغبات المعقدة، سواء كانت تعديل الدستور لكى يضمن توريث السلطة، أو التبرع للجياع في بلاد بعيدة لم نزرها من قبل. يجب على الحقيقة العليا التعامل معها، لكي تظهر أهدافها النبيلة عبر التاريخ.  الحقيقة العليا، أو الله، أو الحق المطلق، تستخدم إرادة الإنسان كوسيلة لإظهار أهدافها النبيلة.
كيف تفعل الحقيقة العليا ذلك؟ يقول هيجل، عن طريق "مكر العقل الكلي".  عن طريق إستخدام وسائل العنف واللين والمهارة والمكر،...إلخ. بهدف إحضار الحرية كحقيقة عقلانية  إلى عقل الإنسان. "مكر العقل الكلي" تستخدم جشع الإنسان ورغباته الملحة لتحقيق أهداف الحقيقة العليا في تطور الإنسان الخلقي.

عصرالأنوار الأوروبي الذي تحقق على أيدي فلاسفة التنوير،  يعتبر تطبيق لتلك الفلسفة الجديدة للتاريخ، فعندما كان العقل الكلي الأوروبي سائراً نحو التحرر الكامل والتقدم في اتجاه تقدم الإنسان، كان لابد لمنطق التاريخ الجدلي، من أن يعمل على إشعال نار الاصطدام بين رجال الكنيسة في أوروبا وبين التيارات الفكرية التنويرية الجديدة.
كان لذلك ثمنه الباهظ الذي تمثل في الاضطهاد الديني للمفكرين والأدباء والفلاسفة الأوروبيين. الذي جاء مخالفا لمحاولات الكنيسة للحفاظ على موقعها المتميز، القائم على حقها الوحيد في الإمساك بزمام الخلاص الروحي والتفسير الوحيد للدين. 
لم يكن يدور بخلد أولئك المنفذين من أباطرة الكنيسة وقساوستها، وهم يقيمون محاكم التفتيش ويحرقون العلماء ويسحلون الفلاسفة، أنهم يؤدون دوراً رسمه لهم التاريخ بواسطة العقل الكلي المسيطر مسبقاً.
هذا الصراع، بلغ مرحلته الحاسمة، عندما أدى  إلى انتهاء دور الكنيسة الأوروبية، في هيمنتها على الأفراد والحياة. وتحرر العقل الأوروبي نهائياً من قبضتها،  وتحولت الكنيسة إلى مؤسسة دينية تحكمها لوائح وأنظمة المؤسسات الأخرى في المجتمع. وعقبالنا يا رب، عندما نتخلص من تحكم رجال الدين والدعاه الجدد في شعوبنا.
الحقيقة العليا لا تظهر نفسها في الأفراد، أنا وأنت. ولكن تظهر نفسها في كل الناس مجتمعة، في الأمم ككل. مثل رمية نرد واحدة أو قطعة نقود واحدة، لا تستطيع أن تتنبأ  بظهور الصورة. لكن ملايين الرميات، تستطيع التنبؤ بهذه الحقيقة.
"روح الشعوب"، هو تعبير كان يستخدمه هيجل. يعني شيئا قريبا من تعبير "الحضارة". يشمل اللغة والدين والفنون والموسيقى والشعر والمعمار والأخلاق والفلسفة والعلوم والقانون. روح أي شعب، نجدها مجسدة في كل هذه العوامل.
عوامل الحضارة، تنتشر بين أفراد الشعب.  توحدهم في جسد حي واحد. لا يكفي أن نقول نحن شعب عظيم بالوراثة. إذا لم تكن لدينا أرقى هذه العناصر الحضارية  وأعظمها. أعظم العلوم، وأرقى الأخلاق، وأجمل الفنون، وأعذب الموسيقى،... إلخ. 
عناصر روح الشعوب، لا تعمل أو تفهم بمفردها. لكنها مجتمعة، تشكل كائن حي عضوي. الإنسان المصري القديم، لا يمكن أن نفهم طبيعته وعظمته، إلا من خلال فنونه وديانته وآدابه وما خلفه لنا من آثار عظيمة.
الدولة في مفهوم هيجل، هي أيضا كائن عضوي. تشمل الحكومة والمؤسسات والثقافة. الدولة تمثل العضو في التاريخ العالمي. ويكون هدف "مكر العقل الكلي"، هو إستخدام، لا الأفراد مثلي ومثلك، ولكن الدول. لكي تعطي الإنسانية وعيها بالحرية.
هذه الدول العظيمة، لا الأفراد، هي التي يظهر فيها الوعي بالحرية. وكل دولة، لها دور محدد، من واجبها القيام به نحو هدف الحرية النبيل على مسرح التاريخ العالمي.
جدلية هيجل، هي التي سمحت بتبرير وجود الشر في هذا العالم. الشر موجود لدفع التقدم إلى الأمام. حركة التاريخ تسير إلى الأحسن. لكنها لا تسير في خطوط مستقيمة. مثل أسعار الأوراق المالية في البورصة. تتراوح بين صعود وهبوط. مرات الصعود أكثر وأطول. إتجاه أسعار البورصة في المدي الطويل في صعود مستمر.
كذلك حركة التاريخ. هي أيضا بين صعود وهبوط جدلي. لكنها في الأمد البعيد، في صعود مستمر. فلم تعد لدينا جواري أو عبيد. وتحررت معظم الشعوب من الإستعمار المسلح، إلا الشعب الفلسطيني. وبدأت الديموقراطية في الإنتشار بين الشعوب. إلا شعوبنا.
سوف تختفي الديكتاتورية وحكم الإستبداد قريبا. وسوف تختفي إسرائيل كدولة عنصرية، ويعيش الفلسطينيين واليهود آمنين في دولتهم وبين أقرانهم من البشر كباقي الشعوب. هذا ما يقوله لنا التاريخ. متى؟ التاريخ لديه الوقت الكافي، لتحقيق كل أهدافه.
كيف نقارن فلسفة هيجل بفلسفة الأنوار. بالنسبة لهيجل، التاريخ يستند إلى المجتمعات والدول، لا الأفراد. التاريخ يهتم بروح الشعوب، بكل ما لها من حضارة، ولا يهتم فقط بالعلوم والتكنولوجيا.
التاريخ ليس مسرحا للسعادة، ولكنه حركة نحو الحرية بالنسبة للشعوب. يستخدم الخير والشر إن لزم. يستخدم شهوة الفرد وطمعه كوسيلة لتحقيق أغراض التاريخ  النبيلة.
قراءة هيجل، تمدنا بالكثير من الحكمة. فلسفته أعطت العالم الكثير من المفاهيم. روح الشعوب، حضارة الشعوب، حيوية المجتمعات، جدلية الأفكار. نظرياته بينت العلاقة بين الفرد والمجتمع. معظم أعمال هيجل ونظرياته، نجدها الآن في علوم الإجتماع، والعلوم السياسية، والتاريخ والتحليل النفسي.
تأثير هيجل، لا ينحصر فقط على العلوم التي تهتم بالإنسان. لكن على الفلسفة نفسها. وكما يقول الفليسوف الفرنسي "موريس ميرلو"، كل الأفكار الفلسفية العظيمة في القرن التاسع عشر، وكل فلاسفة التنوير، وماركس، ونيتشه، والوجوديين، والمحللين النفسانيين، كل هؤلاء بدأوا بفلسفة هيجل.


تظهر اهمية فلسفة التاريخ عند هيغل في تخطيها لميتافيزيقيا كانت الذاتية التي اكدت على عجز الفكر عن معرفة الاشياء في ذاتها، حيث استطاع عن طريق الجدل انجاز مهمة الفلسفة والوصول الى هدفها " الموضوعي " وهو الاندماج الكلي مع العقل.
بدأ هيغل مشروعه الفلسفي في نقد كانت " بلحظة الوعي المتألم" التي عجزت عن مسك الواقع والموضوعية.  ولكن الواقع عند هيغل بقي في مستوى موضوعات العقل التي تعي نفسها في فترة معينة لتصل بالتدريج, مع التاريخ, الى الاندماج الكلي فيه فتصبح مطلقا. وبهذا فالتاريخ عند هيغل هو الذي مكن الوجود من تحقيق ذاته في المطلق, وان الترابط بين العقل والتاريخ في جدلية هيغل, انما يتمثل" في قدرة العقل على ان يصبح واقعا وقدرة الواقع على ان يتحقق في العقل"، وهو ما حرر العقل من الفكرة الستاتيكية التي امتدت جذورها الى الافلاطونية والارسطية والديكارتية وفكرة " التعالي" الكامنة عند كانت.
يقول هيغل : " الحقيقة هي الكل ، ولكن الكل مثل الجوهر في عملية تحقيقه وانتهائه بواسطة تطوره.   يصبح المطلق. جوهريا، نتيجة، بمعنى انه حقيقة فقط في نهايته.. وهذا ما يمثل طبيعة التي يكون واقعا فعليا باعتباره ذاتا او تطورا لذاته.  والعقل لا يقف من الواقع موقف القطب الخارجي منه ولا يمثل الواقع جوهرا يقف امام العقل. فالواقع يتضمن معقوليته وما عليه الا تجريد هذه المعقولية بواسطة التفكير.  وبمعنى آخر، فلا وجود لواقع غير العقل.  فالعقل يتأمل ذاته في الواقع  والواقع لا يعني المجسم والمحسوس، بل العقل الذي هو الجوهر، لان كل واقع يجد وجوده وصلاحيته فيه. فهو القدرة اللانهائية وكل ما هو اساسي وحقيقي، الذي يحوي مادته الخاصة التي يصوغها بواسطة نشاطه الخاص الذي يوجد في رأس من رؤوس بعض الرجال الذين يوجهون التاريخ ويتنبأون بالضروري ويجسدون بذلك روح الامة ويحققون اسمى درجات الحرية.
والعقل لا يحتاج كالعمل النهائي لوسائل خارجية وآليات معطاة لكي يمد نشاطه بالمواضيع والطعام فهو يغذي نفسه بنفسه وهو لذاته المادة التي يصنعها، وهو يمثل فرضيته الخاصة ونهايته هي النهاية المطلقة، وهو يحقق نهايته وينقلها في الداخل والخارج، لا في الكون الطبيعي فحسب، بل وحتى في الكون الروحي.  ففي التاريخ الكوني تكون الفكرة هي الحقيقة الازلية والقدرة المطلقة التي تتجلى في العالم ولا يتجلى أي شيء آخر غيرها
و"الفكرة" عند هيغل موجودة في ذاتها ولذاتها، فهي الحق المطلق في ذاته، وهي ما يدخل في عداد الروح المطلق والكوني. " وما الروح المطلق الا الروح من حيث هو كوني وليس من حيث هو خاص ومتناه، انه يتحدد على انه الحق الكوني في حقيقته"، الذي يهدف الى الوصول الى الحرية التي هي جوهر الروح، لان خصائص العقل لا توجد الا بفضل الحرية التي يعبر عنها التاريخ عند تحقيق روح الامة.  ولا يمكن ان يكون العقل حرا الا اذا استطاع امتلاك العالم.  وبفضل امتلاك العالم يحقق العقل وجوده.  واما اذا كان العقل مطلقا ومجردا فانه يبقى خارج الواقع، ولكنه يكشف نفسه في العالم ولا يكشف عن مجده وشرفه الذي يظهر كتقدم في وعي الحرية، التي تبحث عن روح الامة.  كما ان خصائص الروح لا تظهر الا بتحقيق الحرية، فالحرية هي الحقيقة الوحيدة للروح ولا يمكن معرفة الروح الا بنقيضها المادة.  ولما كان جوهر المادة هو الجاذبية، فان جوهر الروح هي الحرية.  وبما ان المادة تمتلك الجاذبية، بسبب ميلها نحو نقطة مركزية باعتبارها مؤلفة من اجزاء تبحث عن وحدتها، فانها تحطم نفسها بنفسها لانها تتجه نحو نقيضها واذا حققت ذلك فلا وجود لها لانها تحقق بذلك وجودها المثالي. اما الروح فهي على النقيض من المادة، فالروح لا تمتلك نقطة مركزية في نفسها، لان وحدتها لا توجد خارج نفسها وانما توجد فيها ومعها.  وبهذا فان المادة تمتلك جوهرها خارج نفسها ، اما الروح فتكتفي بوجودها.  وان هذا الوجود المكتفي بذاته للروح هو الوعي الذاتي، هو وعي الفرد بوجوده الذي يتحقق في التاريخ الكوني الذي تجلى في المسار الالهي المطلق للعقل في اعلى اشكاله : المسار التدريجي الذي يصل بواسطته الى حقيقته ويعي ذاته.  وان خصائص الامم (الاخلاق الجمعية والدين والقيم والقوانين) ما هي الا تمثيل لتكوين هذا المسار التدريجي.  اما تجاوز هذه الدرجات فيعبر عن الرغبة اللانهائية والدفعة التي لا يمكن مقاومتها لعقل العالم.  وان مبادئ " العقول الجمعية" في تواليها الضروري، ليست سوى فترات " العمل الفريد" والكوني الذي بفضله يصل التاريخ الى الكلية الشفافة لذاتها والى نهايته.
ان السيرورة الجدلية لتقدم الوعي، من مرحلة الوعي الفردي الى مرحلة الوعي المطلق، انما تمثل تطور متسق في التدرج التاريخي الذي يتحقق في اشكال الفكر التي تمر عبر تشكيلة اجتماعية وصولا الى العام والمطلق. وان وحدة وثبات السلوك الاخلاقي والقانوني والقيمي في العائلة والمجتمع يكون في الاخير الوحدة بين الذاتي والموضوعي، التي تصل الى اعلى اشكالها في الدولة، التي تتطور من خلال الصراع الجدلي لروح الامة، بحيث يصبح التاريخ سيرورة الوعي الذاتي لروح الامة، وفي ذات الوقت، تقدم في وعي الحرية.
من هذه الرؤية المفارقة يتخذ هيغل موقفا معاكسا لموقف فلاسفة القرن الثامن عشر، الذين طالما بحثوا عن الاساس الفلسفي للسياسة والدولة الفاضلة، وكذلك عكس لوك وروسو اللذان بحثا عن" نظرية تعاقدية" فهو بحث عن ما هو موجود وهو العقل، باعتباره ابداعا تاريخيا للروح.  ولعل هذه الرؤية تفسر تبريرية هيغل " للأوتوقراطية البروسية" في عصره، التي وجد فيها تجسيدا لنظريته في الدولة.  وبهذا المعنى يبحث هيغل عن " دولة مشخصة" هي " العقلي في ذاته ولذاته" لانه لم يشأ ان يكون طوباويا وان يفكر بما هو كائن فقط.
  اما المجتمع فقد نظر اليه هيغل على انه وسيلة لتحقيق الروح المطلق، حيث يقود تقسيم العمل الاجتماعي الى تماسك افراد المجتمع ويفسح المجال لتوظيف الافراد ضمن الطبقات. ومن اجل ان يكون المجتمع قويا وقادرا فهو يحتاج الى بناء فوقي منسق يتضمن عددا من المؤسسات التقليدية.  وعلى الفرد ان يعترف بالحدود المطلقة لمبدأ الارادة الفردية وان ينحني كليا امام الضرورة الناقصة، بل وعليه ان يذوب في المجتمع ، لان المجتمع البرجوازي ينتزع الفرد من رابطته الاجتماعية ويجعل من اعضاءه مغتربين ولا يعترف بهم الا كاشخاص مستقلين ليس لهم ارادة ، فليس هناك ارادة غير ارادة الدولة المطلقة التي لا تقوى الا بالقوة التي يمكن بفضلها بسط النظام والسيطرة الضروريين لتحقيق الوحدة بين الذات والموضوع وبين الفكرة والواقع.  وفي اللحظة التي تتجلى فيها الوحدة بين الذات والموضوع في دولة عقلانية يزول البؤس والشقاء وتتصالح الذات مع العالم ويصبح المجتمع مصدرا للتلبية والرضى ويختفي بذلك كل تعارض وتناقض. وبحسب هيغل، فقد وصل التاريخ الى تحقيق ذاته عندما تسلمت البرجوازية في المانيا زمام الحكم بيدها وبسطت السيطرة والنظام في الدولة البروسية وجسدت بذلك روح الامة.

المصادر:
Geschichtsphilosophie, in Philosophische Woerter buch, s.196 - 198
Hegliasmus, in , philosophisches Woeterbuch, ,stuttgart, 1965, S. 229  
Horkheimer u. Adorno, Soziologiche Exkurse, Frankfurt, 1956, s.83f   Horkheimer U. Adorno, Dialektik der Aufklaerung,Frankfurt,1968  
- ابراهيم الحيدري، ازمة الحضارة الغربية- ازمة حداثة وما بعد الحداثة، ندوة الحضارة الانسانية بين التصور الديني والنظريات الوضعية، الجزء الاول، لندن 1994 ص137-160
- See more at: http://www.elaph.com/Web/ElaphWriter/2009/7/456563.htm#sthash.7TodGXZk.dpuf

دحمور منصور للدراسات التاريخية الموقع الرسمي للأستاذ أبي عبد الله ابن الونشريس الحسني للبحوث التاريخية ساحة فكرية أصيلة في البحث عن الحقيقة من أجل حفظ الذاكرة الإنسانية والاعتبار بمن مضى "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" مرحبا بالجميع